قصة الشيخ عمران
كانت عندنا فرس من كرام الخيل ، خرج بها الخادم إلى المرعى وعاد بدونها ، ولم نكن ندرى أسرقت منه وهو عائد بالخيل فى ظلمة الليل ، أم ذهبت على وجهها فى الحقول ؟!..
وبحثنا عنها فى القرى والعزب المجاورة فلم نعثر لها على أثر ..
وأخيرًا رأى والدى أن يرسلنى إلى الشيخ "عمران" فى النجع .. ليبحث عن الفرس قبل أن تتسرب إلى السوق ..
وراح الخدم يخرجون الخيل .. وانطلقنا إلى النجع وقد انحسر الظل على دروب القرية ، وحميت شمس الضحى واشتد وهجها على الجسر . وكان معى خفيران من خفراء المزرعة ، مسلحان بأحدث طراز من البنادق ، فقد كان علينا أن نسير ساعتين على ظهور الجياد فى طريق مقفر يكثر فيه قطاع الطرق فى تلك المنطقة من الصعيد ..
وأخذ "مسعود" ـ أحد الخفيرين ـ يحدثنى عن الشيخ عمران حتى أفزعنى. فقد قص علىّ أنه كان ذات ليلة فى مزرعة بطيخ له ، فمر تحته قارب صيادين ، ورأى الصيادون بطيخ المزرعة الناضج ، فسولت لهم أنفسهم أن يقتربوا منه ، وأحس بهم الشيخ عمران .. وجاء بهم بعد أن أوثقهم بالحبال ، ثم صنع من لحومهم طعمًا للأسماك !..
وكان فى ثورة سنة 1919 على رأس الرجال الذين عبروا النيل إلى قرية "الوليدية" فى أسيوط .. وكمن هناك فى النخيل قرب الخزان حيث يعسكر الإنجليز ، وأخذ يحصدهم حصدًا ..
ولما أراد العرب أن يعبروا الخزان ، أرسلوا إليه فتقدم ومعه رجلان إلى موقع المدفع الرشاش المصوب على الخزان ، وظل يطلق النار حتى سكت المدفع .. وأدير الكوبرى .. ومر العرب يقرعون الطبول ..
قص على مسعود هذا وغيره . وكنت أعرف الكثير عن الشيخ عمران ، أعرف أنه أشد الرجال بأسًا وأعظمهم جبروتًا ، وما من حادثة تحدث فى المنطقة بأسرها إلا يعرف سرها . وما من رصاصة تطلق فى الليل إلا يعرف مصدرها . إنه رجل رهيب ، إذا دخل قرية فى وضح النهار أرعبها وأفزع أهلها ، وإذا تنكر لقوم بطش بهم .. مسحهم من الوجود مسحًا . بدأ حياته كقاطع طريق صغير ، ثم تطور وعظم أمره ، وغدا أشد فاتك فى المنطقة وأعظم الرجال بطشًا ، كنا نسمع عنه الكثير من القصص المروعة ونحن صغار، وشببنا عن الطوق وصورة هذا الرجل تملأ قلوبنا رعبًا ..
ولهذا ظللت طول الطريق أفكر فيه وأتمثله بعين الخيال ، رجلا فى طول المارد وبطشه ، له جسم ثور وقوة عنترة .. دائما مسلح ، دائما مقاتل ..
واقتربنا من النجع ، وكانت الجياد تتصبب عرقًا ، والتعب قد بلغ منا منتهاه . ولاح لنا النخيل يطوق البيوت المبنية من الطوب الأسود ، ثم عيدان الذرة والحطب على السطوح ، والجريد والدريس والنواعير الخربة فى خارج البلدة .. والكلاب تنبح فى كل مكان ، إنها الصورة المكررة للقرية المصرية منذ الأزل ..
ولم نجد الشيخ عمران فى النجع ، بل كان فى جزيرة وسط النيل ، فتركنا الخيل فى النجع ، وركبنا زورقا إلى الجزيرة ..
* * *
وجدناه فى عريشة صغيرة على ربوة عالية فى طرف الجزيرة . ولقد ذهلت عندما رأيته ، كان رجلا متوسط الطول أقرب إلى النحافة ، مدور الوجه جامد الملامح ، ينسدل شاربه على فمه فى غير نظام ، جاوز الخمسين هادئًا ، ساكن الطائر . هل هذا هو الشيخ عمران الذى أرعب المنطقة قرابة ثلاثين عاما وما زال يرعبها ؟!..
رأيناه من بعيد جالسا القرفصاء وكان ينكت الأرض بعصا قصيرة ، ولم يكن يلقى باله إلينا ، ثم رآنا نصعد فى الطريق إليه فأرسل بصره ثم رده وعاد ينكت الأرض !! وكان يجلس فى ظل العريشة وحيدًا ... لم تكن حوله كلاب، وكيف تعيش الكلاب فى عرين الأسد ..؟!
وعرف مسعود ، ونظر إلىّ قليلا ثم قال :
ـ إبراهيم ابن الشيخ عبد الرحيم ؟..
ـ أجل ..
فرحب ، وفرش لى " زكيبة " وجلست بجواره فى الظل ، وعيناى لا تتحولان عنه . لا ، إننى مخطئ . إن نظرتى الأولى كانت عاجلة . إن هذا الرجل ليس كالرجال ، إنه من طراز آخر ، إن له شخصية جبارة ..
وشربنا القهوة ، وحدثته عن الفرس ، فضحك وقال :
ـ لم يبق إلا هذا ..!
ثم أردف :
ـ لقد شرفتنا ، ونحن فى موسم الإيجار ، ولقد بدأنا فى جمعه فعلا ، وستحضر بنفسك تحصيل الباقى ، وتعود إلى والدك محملا بالمال ..
ابتسمت وشكرته ، إن جمع الإيجار معناه أننى سأبقى مع هذا الرجل القاتل المطارد ثلاثة أيام أو أربعة فى هذه الجزيرة الموحشة ..
وتغدينا وأكلنا البطيخ ، وصرف الشيخ عمران الخفيرين وهو يقول لهما :
ـ قولا للشيخ عبد الرحيم إن إبراهيم فى ضيافتى وسأرافقه حين عودته إلى القرية ... "
ومشى معى يطوف بالحقول ..
* * *
مررنا على مزارع البطيخ على شاطئ الجزيرة ، ورأيت الفلاحين يقفون خاشعين صاغرين أمام الشيخ عمران ، كانوا فى أخصاص من "البوص" قائمة فى صف واحد فى نهاية الحقول . لكل مزرعة خصها وكلابها ورجالها ، فإذا بصروا بنا نهضوا ، وزجروا الكلاب ، ودار الفلاح فى حقله يضرب البطيح بيده لينتقى لنا أحلاه وأنضجه ، فإذا رفضنا قال فى حماسة :
ـ إن هذا لا يصح .. إن هذا لا يصح ..
ولقد وجدت البطيخ مكوما فى أطراف الحقول ولا أحد يحرسه .. والمواشى ترعى الكلأ فى قلب الجزيرة ولا أحد وراءها .. ولم أر فلاحا واحدًا يحمل عصا ، ولا خنجرًا ولا بندقية .. إنهم جميعًا فى حمى الشيخ عمران ، وقد عجبت للهدوء الذى يخيم على الجزيرة .. إنها فى قبضة مارد جبار .. وحدثته عن هذا ، فنظر إلى مليًا ، ثم قال مبتسمًا :
ـ إن كل شىء هنا حسن .. والشر يجىء لنا دائمًا من المدينة ، عندما يذهب الفلاح إلى المدينة ليبيع فى السوق ، يعرف الشاى الأسود " والتمباك " و"الحسن كيف" .. ويرى الذين يلبسون الأحذية ويقرعون بها الأرصفة ، والذين يركبون السيارات الفخمة ويخطفون بها خطفًا فى الطريق .. ويرى الذين يسكنون القصور وحولها البساتين ، ويرى الأنوار تتلألأ فى الليل ، والملاهى البراقة فى كل مكان ، يرى كل هذا ، فإذا عاد إلى قريته جر رجليه جرًا ، كان كمن ضرب على أنفه ، إنه يسأل نفسه وسط الظلام والقاذورات والحشرات ، وروث البهائم .. هل أنا كائن حى ..؟ هل أنا مخلوق بشرى حقًا؟.. هل أنا من طينة هؤلاء ؟.. عاد والغل والحسد والحقد وصفات الشر كلها تأكل قلبه أكلا . وأنت تراهم هنا وتحسبهم ملائكة ، لفرط ما تحسه من سكون يخيم على الجزيرة .. ولكنك لو تركت الحبل على غاربه يا بنى لأكل بعضهم بعضًا .. إنهم يحبون السرقة والسطو على زراعة الجار .. ويغشون ويخادعون ، ولو لم أكن معك الآن لألقوا بك فى النيل ، لأنك صاحب الأرض ، ولأنك كما يتصورون تأخذ من قوت عيالهم ..
فكرت فيما قاله الشيخ وقلت لنفسى :
ـ إنهم يفعلون ذلك كله تحت تأثير نير القرون .. ظلم أجيال وأجيال . إن الفلاح المصرى يسرق ، ويخادع ، ويستريب نتيجة لحياة البؤس والاستبداد التى عاشها منذ آلاف السنين ، ولم يتنفس الصعداء إلا فى عهد العرب ..
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ..؟
ثم ماتت هذه الكلمات وعاد الرق والاستبداد كما كانا ..
وعدنا إلى العريشة نشرب القهوة ، ونودع الشمس الغاربة ..
* * *
* * *
* * *
=================================
نشرت القصة فى صحيفة أخبار اليوم 7/12/1946 وأعبد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " العربة الأخيرة " و " قصص من الصعيد " مكتبة مصر